أسلبة الإعلام الإسرائيلي [معطيات ووقائع جديدة] / أنطوان شلحت (1-2)

أسلبة الإعلام الإسرائيلي [معطيات ووقائع جديدة] / أنطوان شلحت (1-2)
نشرت في الآونة الأخيرة الكثير من الكتابات عن وسائل الإعلام الإسرائيلية وعن ماهية أدائها للدور المفترض بـ"وسائل إعلام الدول الديمقراطية" أن تؤديه، خصوصًا في فترات الأزمات. بيد أن الاستطلاع العام، الذي تجريه مرة كل سنتين مجلة "هعاين هشفيعيت" (العين السابعة)، المتخصصة في شؤون الاتصال والصادرة عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، ينفرد بين هذه الكتابات بتناوله لهذا الموضوع من زاوية شديدة الخصوصية- هي زاوية رؤية الصحافيين الإسرائيليين أنفسهم للأداء المذكور.

ثمة الكثير من النتائج المثيرة التي توصل إليها استطلاع 2004، وهو الثاني من نوعه، والذي ظهر في عدد المجلة الصادر في آذار/ مارس 2005 (1). من ذلك مثلاً أن معظم الصحافيين الإسرائيليين يواجهون- على الأقل بوتيرة معينة- حالات من تشويه الاقتباسات من قبل زملائهم الصحافيين، وحالات من الخنوع لتأثير اعتبارات تجارية على مضامين الأخبار ومن التغطية غير المعقولة نتيجة لـ"علاقات هات وخذ" أو علاقات الأخذ والعطاء بين الصحافيين ومصادر الأخبار. ويعتقد حوالي سبعة من كل عشرة صحافيين أن منظومات الإعلام لا تطبّق بالمدى المطلوب قواعد الأخلاق والاستقامة، التي تطلبها من الأشخاص الذين تغطي أخبارهم. وقال حوالي نصف الصحافيين إنهم يتعرضون لضغوط شديدة من أجل التجاوب مع التوقعات بأي ثمن.

وعلى المستوى الأكثر عملية أيضًا تشير نتائج البحث إلى أزمة شديدة في مشاعر الأمن والاستقرار لدى الصحافيين، وهي مشاعر من شأنها بطبيعة الأمر أن تمّس بقدرتهم على أداء عملهم بصورة مهنية. ويشعر حوالي ثلث الصحافيين أنهم لا يعتاشون بكرامة من مهنتهم ولا يشعر حوالي ربع منهم بالأمن فيما يتعلق بمكان عملهم. وأشار أربعة من كل عشرة صحافيين إلى تعرضهم لملاحقات أو مظاهر عدائية من جانب الجمهور. وقد يكون الأمر الأكثر غرابة من كل ذلك، في رأي معدي الاستطلاع، أن حوالي 40 في المائة من المستجوبين أشاروا إلى أنهم كصحافيين في إسرائيل سنوات الألفين يشعرون أحيانًا بأنهم عرضة لخطر ملموس على حيواتهم.

وقد شمل هذا الاستطلاع، على وجه التحديد، سلسلة من الأسئلة لم يتضمنها الاستطلاع السابق الأول (2002) تتعلق بمفهوم الصحافيين لتأثير وسائل الإعلام، من جهة ومفهومهم للعناصر المؤثرة على وسائل الإعلام، من جهة أخرى.

وعلى صلة بذلك مال المستجوبون من الصحافيين الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن الجمهور (الرأي العام) يتأثر من وسائل الإعلام أكثر مما يؤثر فيها، في حين أن تأثير السياسيين على وسائل الإعلام أكبر نسبيًا. ويعتقد أغلب المستجوبين (54.5 في المائة) بأن تأثير السياسيين هذا هو تأثير سلبي أساسًا (ومن مثلهم يعرف!). وفقط 3.8 في المائة يعتقدون بأن تأثير السياسيين هو "تأثير إيجابي في الأساس".

وأشارت نتيجة إضافية، ليست أقل إثارة، إلى فجوة كبيرة بين التأثيرات التي عزاها الصحافيون إلى وسائل الإعلام وبين المهمات النموذجية المعوّل على المؤسسات الإعلامية أن تؤديها، في قراءتهم. وفي هذا الشأن مال المستجوبون إلى الاعتقاد بأنه ينبغي على وسائل الإعلام، إلى حدّ يتراوح بين بعيد وبعيد جدًا، أن تكشف عن فساد الشخصيات العمومية وأن تصاعد التشديد على أن يفي السياسيون بوعودهم تجاه الجمهور الواسع وأن تدفع إلى الأمام قضية الحفاظ على حقوق الإنسان. لكن في الواقع العملي يشعر الصحافيون بأن وسائل الإعلام الإسرائيلية تؤدي هذه المهمات فقط على نطاق متوسط أو على نطاق أعلى قليلاً من المتوسط. كما يعتقد الصحافيون أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تؤدي دورًا على نطاق ضيق في قضية جعل السجال السياسي أقل عربدة وأنها تكرّس قيمًا صهيونية أكثر مما ينبغي بها أن تفعل.

لا شك أن واقع الإعلام في إسرائيل كان على الدوام من مفاعيل معادلة التأثر والتأثير السالفة. ونقصد به، أساسًا، واقع حرية الصحافة في أن "تغرّد بعيدًا عن السرب"، كما يقولون. وقد سبق لـ"مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" أن أشار في طبعته الأولى (2003) إلى أن حرية الصحافة متدنية، أقرب إلى الحدّ الذي قد يدفع بإسرائيل دفعًا نحو تعريفها بأنها "دولة شبه حرّة" في هذا المضمار (2).

وفضلا عما يمكن استشفافه من نتائج الاستطلاع المارّ ذكره بالنسبة لجوهر الإعلام الإسرائيلي، أولا ودائمًا، فإن ما تقدّم يعدّ أيضًا، بكيفية ما، مقتربًا لخلفيات مسوغات الانزياح الأخير نحو اليمين، من وجهة نظر إسرائيلية محضة. لكن لا بدّ من القول إن هذا الانزياح نحو اليمين يترك في الآن نفسه بصماته الأكثر عمقًا على الواقع الإسرائيلي. ومن هذه البصمات، مثلا، اتجاه النظام الإسرائيلي اليميني الحاكم، الذي يتقوّى باستمرار كما هو بيّن في الوقائع الميدانية أيضًا، نحو فشستة المجتمع الإسرائيلي على أكثر من صعيد.

ومع أن الأمر يحتاج إلى مقاربة مستقلة فإن ما هو أشدّ وضوحًا للعيان، ارتباطًا مع الاتجاه صوب الفشستة، يتمثل في ما يحدث على مستوى وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة من تضييق للخناق، الضيّق أصلاً، حول حرية التعبير والتفكير، لصالح صوت "الإجماع". وهو ما أمسى مدار تحذير أكثر من باحث ومختص في هذا الشأن. غير أنه بكل توكيد غير منحصر في هذا الجانب فقط. ففي الفترة الأخيرة أشار أحد الأخصائيين التربويين الإسرائيليين إلى ما هو حاصل في جهاز التربية والتعليم، منذ أن "زُفَّت" الوزيرة ليمور ليفنات إلى حقيبته الحكومية قبل عدة سنوات، من صعود لأسهم اليمين التربوي الجديد والمتطرف، ومن جعل إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من النظام الفاشي المنفلت من كل عقال، في قراءته. وما يحصل في الاتجاه نفسه فيما يرتبط بالمواطنين العرب الفلسطينيين، وجودًا وحقوقًا، لا يقل دلالة.

وحيال ذلك ينبغي بنا العودة إلى توكيد أن الحالة الإسرائيلية المرافقة لأجواء "الحرب الأخيرة" (على الفلسطينيين، شعبًا وأرضًا) تتميز على وجه الخصوص بنزوعية غير مسبوقة- منذ حرب لبنان في العام 1982، إذا ما شئنا التحديد الزمني- نحو إسقاط الشرعية في الحيّز الإسرائيلي عن مجموعة من شبه الصيرورات، التي لم يحالفها الحظ في أن تدجّج بفاعلية قوى واسعة في القاع. وهي نزوعية واشية بمحاولة مستميتة لجعل وقائع الأمور منفصلة تماماً عن الذاكرة وعن الكينونة الثقافية- المجتمعية. من ذلك، مثلاً، محاولة إسقاط الشرعية عن "حرية التعبير" التي تتمرّد على "الإجماع" ومحاولة إسقاطها أيضًا عن العقل والتفكير الفردي الحرّ.
وبقطع النظر عن التفاصيل، على أهميتها الفائقة، فإن في مجرّد هذا ما يختزل أو ينبغي به أن يختزل الطريق أمام الإسرائيليين أنفسهم نحو وعي ماهية الحصار الذي فرضته حكومتهم على الفلسطينيين، شعباً وقيادة. وتخصيصًا ذلك الوعي الذي من شأنه تفتيح الأعين والأذهان على حصار آخر، موازٍ للأول ومكمّل له، هو ذلك الذي سرعان ما وجد الإسرائيليون أنفسهم بين فكيّه النهمين إلى المزيد.
وشيئًا فشيئًا يتبين أن الثمن المعوّل على هذا الحصار، الأخير، هو التساوق مع الانزلاق نحو الفاشية. وبطبيعة الحال ثمة ديناميكيات جذرية تزيّن السبيل إلى هذا الانزلاق، بعضها راسخ وقارّ بسبب طبيعة النشأة الكولونيالية للمجتمع الإسرائيلي.

وسأكتفي، عند هذا الحدّ، بالإشارة إلى أمرين:

* الأول- لا معنى للبحث عن أسباب الاستقرار النسبي للحكومة التي ترأسها أريئيل شارون، حتى وهي تؤجّج أوار الحرب على الفلسطينيين وتعمّق إجراءات فشستة المجتمع، دون ملاحظة وجود رأي عام يدقّ لها الطبول، ودون ملاحظة وجود مزاج شعبي لا تبهظه الإجراءات المتجهة نحو فشستة المجتمع، حتى لا نقول تدغدغه. وأمام الوضعية الموصوفة للإعلام الإسرائيلي في الاستطلاع تزول الدهشة حول انعدام دوره المرتجى في منع الانزلاق. أما الجمهور المتأثر بالإعلام أكثر من تأثيره فيه، فتلك قصة أخرى قد لا يعدّ الإعلام الطرف الأهم فيها.

في إحدى مقابلاته العديدة سئل الكاتب البيروني ماريو فارغاس يوسا فيما إذا "يمكن القول إن الشعوب والطغاة يتقاسمون مسؤولية الأنظمة الاستبدادية"؟، فأجاب: "هل كان باستطاعة فرانكو أن يكون موجوداً دون الاسبانيين؟ هتلر دون الألمان؟ ماو (تسي تونغ) دون الصينيين؟ بإمكان جميع الشعوب في بداية أي نظام استبدادي أن يقاوموا. لكن الحقيقة أن أغلب الدكتاتوريين ينجحون، لبرهة، في جذب وإغراء أكبر شريحة من الجماهير. وإذا استثنينا الدعم العسكري نجد أن الطغاة يأتون لأننا نطلبهم. كان تروجيللو شعبيًا جدًا إلى درجة أن الشعب الدومينيكي لو كان التقى القتلة ليلة اغتياله لافترسهم... ما أريد توضيحه أن الديكتاتورية ليست فقط الإذلال والتعذيب والقهر، إنما هي أيضًا انهيار بطيء لمجتمع بأكمله".

* الأمر الثاني- لعل أكثر ما يسترعي الاهتمام أخيرًا هو البحث في اللغة، بوصفها ديناميكية جذرية في واقع استلابي شامل تهيمن عليه المؤسسة الحاكمة، ومثل هذا الواقع ينسحب على الوضعية الإسرائيلية اليوم. والأساس الفرضي لذلك أن المنظور الدلالي للغة قد أصبح قريبًا جدًا من "رؤية أيديولوجية" للهيمنة المؤسساتية، في وقت بات فيه ادعاؤها الوحيد بأنها جادّة في البحث عن مخرج من المأزق أو عن منفذ للخلاص.

وما علاقة ذلك بالفاشية وخطر فشستة المجتمع؟

يمكن العثور على الجواب الشافي لدى المفكر ثيودور أدورنو الذي قال : "الفاشية لم تكن مؤامرة فحسب، وإن كانت أيضاً شيئاً من هذا القبيل، وإنما نجمت أساسًا عن نزعة تطور اجتماعية جارفة. واللغة تتيح لها ملاذًا. ففيها- في اللغة- تنعكس الكوارث المستمرة كما لو أنها الخلاص المشتهى".


تضمن عدد تموز/ يوليو 2005 من مجلة "هعاين هشفيعيت" (العين السابعة) الإسرائيلية المتخصصة بشؤون الاتصال محورًا خاصًا بأوضاع الصحافيين في إسرائيل (3). ومع أنه جاء منحصرًا في الاجتماعية- الاقتصادية منها، فإنه لا معنى لقراءة معطياته، التي شفّت خلافًا لتوقعات البعض عن حالة رثّة وبائسة، دون استعادة الأداء العام لوسائل الإعلام الإسرائيلية الذي يتناءى، يومًا بعد آخر، عن الأداء المفترض أن تؤديه وسائل إعلام في دولة تعرّف نفسها بأنها "دولة ديمقراطية". وفي واقع الأمر جاء هذا المحور ليقدّم خلفية شديدة الأهمية لبعض نتائج الاستطلاع الذي عرضنا له في السطور السالفة.

تناول المحور ثلاث قضايا عامة تتعلق بتآكل أجور الصحافيين الإسرائيليين وغياب الجهة المدافعة عن حقوقهم النقابية وشروط عمل الصحافيين العاملين على أساس "المقاولة" (فري لانسيرز). ويمكن تلخيصه ضمن العناوين العريضة التالية:

(*) من الصعوبة بمكان أن يحدّد المرء، بشكل دقيق، إلى أي حد تآكلت أجور الصحافيين، نظرًاً لعدم توفر معطيات مُركَّزة، ومع ذلك فإن التقديرات السائدة تُشير إلى أن أجر ذوي المناصب الكبيرة والمراتب الوسطى العليا (في الصحافة المكتوبة) قد تآكل منذ نهاية التسعينيات بدرجة معينة، فيما تآكل أجر سائر الباقين، باستثناء بعض الوظائف القليلة، بنسبة واقعية تراوحت بين 10 إلى 20 في المائة. أما الانخفاض الملحوظ الذي طرأ بصورة خاصة على أجور صغار الموظفين (الصحافيين) فيمكن تعليله في شكل أساسي بوتيرة التبدلات والتقلبات العالية نسبياً في هذه الوظائف وبالأجور المتدنية عموماً التي تُعرض على الموظفين الجدد مقارنة مع سابقيهم.
وعند مقارنة أجر الصحافي مع الأجر المتوسط في المرافق الاقتصادية ترتسم صورة أشد قتامًا واختلالاً، فالمكانة الاقتصادية للصحافي الإسرائيلي تشهد تراجعاً مستمرًا.

(*) البروفيسور داني غوتوين من جامعة حيفا، المتخصص في التاريخ الاجتماعي- الاقتصادي، يرى أن تآكل الأجور في الصحافة هو جزء من عملية واسعة تلائم فيها الصحافة الإسرائيلية نفسها للسوق الحرة وسط تنازل معيّن عن حقوقها. ويشير غوتوين إلى انعكاسين للتآكل في الأجور بقوله "أحد الأشياء التي يمكن لها أن تضمن للصحافي القدرة على الاضطلاع بدور الشرطي من طرف الجمهور هو أمنه الوظيفي أو التشغيلي". ويضيف "لكن المعيار يتحول إلى فصل تعسفي من العمل، وفي ظل هذا الوضع يفقد الإنسان قدرة الصمود في مواجهة أصحاب المصالح... إذ ما الذي يدعوه إلى المجازفة والتنازع مع متحدث رسمي أو مع صاحب رأسمال متنفّذ قد يضطر في الغد إلى طلب عمل منه؟".
الانعكاس الآخر حسب غوتوين يتمثل في طمس الحدود بين الصحافة والدعاية. ففي الوقت الذي يحتفظ فيه أصحاب المصالح المختلفة، الاقتصادية والسياسية، بمهارة وكفاءة إعلامية عالية، نجد أن مهارة ومهنية الصحافيين تتعرض للضرر والأذى بسبب تبديل أو تغيير نابع في حد ذاته عن الأجر المتدني. "عندما تقوم بتطفيش الكفاءات وتحويل الصحافة إلى محطة انتقالية فإن أداء جهاز الرقابة سيصبح أقل جودة"، يقول غوتوين قبل أن يضيف ملخصاً "الصحافي الجائع أو المُجَوَّع يتحول إلى صحافي ودودٍ وأليف".

(*) في فترات الركود الاقتصادي تمتلئ صفحات الجرائد ونشرات الأخبار عادة بالتقارير التي تتحدث عن حملات التسريح والمُسَرَّحين (المفصولين) من العمل. بيد أن "الوضع" لا يَقفز أيضاً عن وسائل الإعلام في إسرائيل، هذا فضلاً عن أن التغييرات البنيوية التي يمر بها الفرع تُفاقم أكثر الأزمة المالية التي يُعانيها أصلاً، وتشكل موجات الفصل والتسريح الواسعة للصحافيين إحدى الوسائل التي يلجأ إليها الناشرون للتغلب على المشكلة.
فما الذي يحدث عندما ينهال سيف التقليصات على رقاب الصحافيين أنفسهم؟ من الذي يُسمع عندئذٍ صرخة أبواق الشكوى والاحتجاج؟!
"الصحافيون خير من يدافع عن قطاعات تتضرر حقوقها الأساسية، لكنهم سيئون جداً، حسبما يتضح، عندما تكون حقوقهم وأوضاعهم هم هي المستهدفة"، هذا وفقاً لما قاله أحد الصحافيين الذين أُقيلوا في الآونة الأخيرة من صحيفة "معاريف"، مضيفاً "بسبب اعتبار الكرامة الذاتية تجدهم يمتنعون عن الاحتجاج على المس بهم ويذهبون إلى بيوتهم بصمت وهدوء".

(*) من الصعب تقدير عدد "العاملين بالمقاولات" في وسائل الإعلام الإسرائيلية. فهذه المكانة أضحت منتشرة أكثر فأكثر خلال السنوات الأخيرة وذلك بسبب الطابع الخاص لسوق الصحافة. وهناك الكثيرون من المراسلين (خاصة المتواجدين في الخارج) والمصورين والعاملين في الصحف المحلية ومحطات التلفزيون يعملون بطريقة "العمل الحر" أو ما يدعى باللغة العبرية الصحيحة "مشاركون أحرار". والمبدأ هو تمكين الصحافي من تسويق بضاعته لكل من يطلب دون أي التزام مستقبلي تجاه هذا الصحافي.
وقد منح العرض الكبير، من جانب الشبان المعنيين بالعمل في وسائل الإعلام، قوة غير محدودة تقريباً للناشرين وأصحاب شبكات البث الإذاعي والتلفزيوني. وفي ظل غياب تقدير حقيقي للخبرة والتجربة الصحافية تطوّر ميل لدى شركات الإعلام نحو قبول تشغيل جيل الشبان الطموحين بشروط قاسية ورديئة للغاية، ما يمكّن بالتالي هذه الشركات من تقليل وإضعاف قوة العاملين في الفرع. وكما كتب في مجلة [العين السابعة] فإن "الاندفاع نحو ولوج سوق مشبعة يؤدي إلى استغلال مريع يتيح أيضاً عملاً دون أجر نهائياً... ". من هنا فقد نشأت سوق واسعة من الصحافيين الذين يعملون على أساس ثابت ويومي، والذين ينظر إليهم قانونياً كـ"فري لانسيرز ثابتين"، أي كأُجراء مجردين من الحقوق يدفع المشغلون عنهم رسوم التأمين الوطني وضريبة الصحة فقط.
أحد الأمثلة، وهي كثيرة، تتعلق بالعاملين في برنامج "عيرف حداش" [مساء جديد] في التلفزيون التعليمي (الرسمي)، فالمحققون الصحافيون الذين يعملون لحساب هذا البرنامج، لمدة خمسة أيام في الأسبوع بوظيفة كاملة، يوقعون عند بداية تشغيلهم على عقد ورد فيه نصاً بأنه لا يحق لهم الحصول على حقوق اجتماعية. ولسبب ما يسجل في كشوف رواتب هؤلاء المحققين الصحافيين 18 يوم عمل فقط، على الأكثر، على الرغم من أنهم يعملون فعلياً عشرين يوم عمل في الشهر.
ويلخص الصحافي ران أدليست، وهو "فري لانسير" قديم يقدم خدماته لوسائل إعلامية عديدة، أوضاع الصحافيين المضطرين للعمل بموجب هذه الطريقة الواسعة الانتشار في وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة، بقوله: قبل عدة سنوات كان الـ"فري لانسير" يعيش كالملوك... أما اليوم فقد أصبح كـ"الهومليس"... وفي الظروف الراهنة، فإن وسائل الإعلام التي باتت مُتخمة بالناس وإلى حد الانفجار، تلتزم أولاً وقبل كل شيء تجاه العاملين المثبتين".

ويشبه أدليست نظام السوق الحرة في العمل الإعلامي بقانون الغاب الذي لا يسمح سوى ببقاء الأقوياء.

هذا المحور حول أوضاع الصحافيين المعيشية، كما الاستطلاع حول أداء الصحافيين، كما "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" الذي أظهر أن حرية الصحافة في إسرائيل متدنية، يطرح سؤالاً لا بدّ منه حول "اليوم التالي".

لكن بدل الاستغراق في البحث عن أية إجابات مستحقة من الجدير ملاحظة عارض ما في المجتمع الإسرائيلي يفيد بأن وضعية تشخيص الأمراض التي تنخر جسد هذا المجتمع، والتي يقع عبء القيام بها على كاهل مؤسساته المدنية، لا تتناسب طردًا مع ما ينبغي أن يستحضره هذا التشخيص الزخم من أوضاع العلاج الجذري، بالتأكيد من جانب الهيئات الرسمية ولكن أيضًا من جانب مؤسسات المجتمع المدني، بكيفية ما.

فهل بات الأمر مرتبطًا بمعيقات إدراكية بنيوية؟ أم أنه يرتبط كذلك بالذاكرة الإسرائيلية نفسها التي لا تنفك موثقة برباط وثيق بالحاضر، إلى حدّ الاستنقاع فيه؟.

إن الأمر بشأن هذا السؤال الأخير غير منحصر على ما يبدو في الإعلام فحسب. ففي تقرير نشر في خريف 2005 في إحدى المجلات الإسرائيلية المتخصصة، حول خلاصة تجربة خاضتها خبيرة تربوية إسرائيلية عملت في حقل تقليص اللامساواة (وهو التعبير المهذّب لسياسة التمييز العنصري) في جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي (بين الطلاب اليهود أنفسهم وبينهم وبين الطلاب العرب) تقول إنها حاولت، كتعزيز لمهمتها، أن تعرف نتائج عشرات الخطط التي أعلنت عنها وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية لتقليص الفجوات في عشرات السنين الأخيرة، ولكن "فوجئت بعدم وجود أرشيف في الوزارة يحتوي التقارير المقدّمة سابقًا والخطط التي جُربت". وتمثلت النتيجة التي توصلت إليها في "أن وزارة التربية والتعليم تفتقر إلى ذاكرة تاريخية، ولا توجد أية وسيلة لمعرفة ما حدث أو ما لم يحدث سابقًا".

وتتابع: "فهمت من الذين قابلتهم أنه في السنوات الأخيرة تركّزت النشاطات لتقليص الفجوات فيما يعرف بـ(مشروع الثلاثين بلدة)، فقد اختاروا هذه البلدات الفقيرة في أرجاء البلاد وحوّلوا إليها الملايين من الشواقل بواسطة مقاولين خصوصيين، لتقليص الفجوات بين هذه البلدات والبلدات الغنيّة. أردت معرفة نتائج هذه الخطة لدى الوزارة وبما أنه لا توجد ذاكرة للوزارة فقد تحدثت مع نائب المدير العام الذي ركّز الاهتمام بهذا المشروع، وفي حديثي معه فوجئت من جديد: لا معطيات لدينا ولا تقديرات!! خمس سنوات بعد إنهاء المشروع الذي كلّف الملايين لا معطيات ولا نتائج لدى الوزارة".

مع هذا، وعلى الضد مما تقوله هذه الباحثة، ثمة معطيات ونتائج بالنسبة للإعلام الإسرائيلي، على الأقل خلال السنوات الخمس الأخيرة. ورغم ذلك فبين هذه المعطيات وتلك النتائج تستمر الصحافة الإسرائيلية في كونها صحافة رخيصة، كتوصيف مجلة "العين السابعة"، صحافة عادة ما يسهل انقيادها وراء المالك، من جهة وأخطر من ذلك يسهل انقيادها وراء المؤسسة الحاكمة، من جهة أخرى.

وقد قدمت السنوات الأخيرة، وبالذات منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، العديد من القرائن الدالة على هذا الانقياد الذي لا يقتصر ثمنه ومترتباته على الصحافيين أنفسهم، كما أنه لا يرخي بظلاله القاتمة على الحاضر فقط.

(للبحث صلة)
1. استطلاع "هعاين هشفيعيت" عن وسائل الإعلام، بقلم: ياريف تسفاتي وآرن ليفيو. مجلة "هعاين هشفيعيت"- القدس، عدد 55 ، آذار/ مارس 2005.

2. صدرت الترجمة العربية لـ"مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" المذكور عن منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله. وذلك ضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية"، العدد 16، آب/ أغسطس 2003.

3. "صحافة بلا تغطية"، بقلم: إيال أبراهامي، عميت بن أرويا ويائير ليفي. مجلة "هعاين هشفيعيت"- القدس، عدد 57، تموز/ يوليو 2005.

التعليقات